نظرات في الوقف

كان الوقف في الإسلام من أعظم أبواب الصدقات التطوعية رأينا من المناسب أن نلقي الضوء عليه في جوانب متعددة منه وعلى عدة حلقات ، مع الحديث عن بعض الأوقاف التي أوقفتها شخصيات بارزة من مملكة البحرين ، كانت لها بصمات ملموسة في باب الوقف . وحديثنا عن هذا الرعيل هو في الحقيقة رد للجميل لمن له حق علينا ، وهو أيضاً دعوة صادقة لتشجيع أفراد مجتمعنا وهم ورثة الأجيال السابقة للحذو على خطى الأقدمين ، والامتثال بهم في الإنفاق والجود والإحسان .

كلمة في الوقف : 

مثل الجانب الخيري للأمة الإسلامية سمةً بارزة وعلامة متميزةً ، اتصفت به المجتمعات الإسلامية أفراداً وجماعاتٍ ، وحكاماً ومحكومين ، يحمله جيل عن جيل . فأبواب الخير ومنافع البر التي جاء الإسلام بها وفتحها للناس ؛ من أجل نفع الآخرين والأخذ بيد كافة فئات المجتمع إلى مستقبل أفضل ، تسوده روح الإخاء والتكاتف ، منها ما هو واجب على المرء المسلم كالزكاة والكفارات والنذور .. ، ومنها ما هو ذو طابع تطوعي بحت ، لا إلزام فيه ولا إجبار ؛ يطلبه المسلم ابتغاء وجه الله ؛ ورغبة فيما أعده الله للمحسنين والمحسنات ، والمتصدقين والمتصدقات في الدار الآخرة من النعيم المقيم ، وهو : أنواع الصدقات التطوعية والوقف . فالمسلم حين يتنازل عن حر ماله طواعية فهو يتمثل الرحمة المهداة في الإسلام للبشر أجمع ، ويتحرر من ضيق الفردية والأنانية . وهذا التفاعل تحقيقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حدد فيه دور الفرد المسلم تجاه مجتمعه في الحديث الشريف : (( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى )) رواه البخاري .ولا شك أن المجتمع الذي هذه صفته سترفرف عليه ألوية التعاون والتكافل والتحاب ، والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس ، وستنظر إليه المجتمعات الأخرى بعين الإعجاب والرضا والقبول . ومن هنا فلا غرابة أن يسارع الناس أفراداً وشعوباً للدخول في هذا الدين . ويأتي نظام الوقف في الإسلام ؛ ليمثل رافداً من أهم روافد الصدقات التطوعية ، وجانباً عظيماً في باب أعمال الخير والبر ، بل هو بمفهومه الواسع يمثل أصدق تعبير وأوضح صورة للصدقة التطوعية الدائمة ، بل له من الخصائص والمواصفات ما يميزه عن غيره ، وذلك بعدم محدوديته ، واتساع آفاق مجالاته ، والقدرة على تطوير أساليب التعامل معه . ومن نظر في التاريخ سيرى أن الوقف لعب دوراً هاماً وفعالاً في حياة المسلمين بشكل عام ؛ لأنه طال مختلف جوانب حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية . وامتدت آثاره الإيجابية لتشمل معظم أوجه الحياة المختلفة . فقد مثلت الأوقاف الإسلامية نواة قوية ودوراً رئيساً ساهم في بلورة الحضارة الإسلامية وتقدمها عبر التاريخ ؛ حيث وفرت الحياة الكريمة لشرائح كبيرة من المجتمع ، كالعلماء وطلاب العلم ، ولبت حاجات الضعفاء والفقراء والمساكين ، وانتشال كثير منهم من ضنك العيش والفقر ، وصيانة وجوههم عن الحاجة إلى الناس ، وأسهمت في إنشاء المشافي ورعاية المرضى ، وتأسيس دور العلم ورعاية طلبتها ، وإنشاء الطرق والسبل والآبار ، وبلغت آثارها لتشمل التحصينات العسكرية وإعداد الجيوش .وبهذا تكون الأوقاف قد غطت جميع المجالات تقريباً ، سواء الثقافية منها أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الصحية . وقد تبارى في السباق إليها والتنافس عليها أهل الخير والصلاح ، حتى أصبحت مواردها تغطي ما خصصت له في العصور الماضية . ونعلم أنه كان للوازع الديني الأثر البالغ في ذلك ؛ فإن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على بذل الخير والتصدق والإحسان إلى عموم المسلمين كثيرة جداً ، وهو ما يرمي إليه الوقف ، منها قول الباري عز وجل : (( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) ، وقوله تعالى : (( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ )) ، وقول النبي r : (( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )) . وقد فسر العلماء الصدقة الجارية في الحديث بالوقف بأنواعه المختلفة . فالوقف في الإسلام عنصر فعال ، وأساس مهم ؛ للنهوض بالمجتمع وفاعليته على مختلف المستويات ، كما أنه يجسد قيم التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد .

إن الحديث عن أهمية الأوقاف في حياة المجتمع المسلم يحتاج إلى وضع دراسات شاملة تأخذ من الوقت الشيء الكثير ، ومن الصفحات العدد الكبير ، ومن الجهد العمل المستمر ، في بيان أهمية دور الأوقاف في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .