الوقف فضائله و أحكامه
الوقف لغة : الحبس من التصرف.
وشرعاً : تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة في أوجه البر تقرباً من الله تعالى"
و المراد بالأصل : ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقاء متصلاً، كالعقار والحيوان والسلاح والأثاث وأشباه ذلك .
حكمه : حكمه حكم الصدقة، مستحب من أعمال الخير والبر.
الأدلة على مشروعية الوقف ثابته بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فعموم الآيات المرغبة في الإنفاق في سبيل الله ، كقوله تعالى
( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) (آل عمران: 92). و كقوله تعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر و الملائكة و الكتاب والنبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة...) الى آخر الآية (البقرة:177) وأما السنة، فالأدلة من السنة كثيرة منها ما يلي:عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}: "إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" (رواه مسلم).و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} "إن مما يلحق المؤمن من عمله و حسناته بعد موته علماً علمه نشره و ولداً صالحاً تركه أو مصحفاً ورثه أو مسجداً بناه، أو بيتاً لإبن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته و حياته تلحقه من بعد موته" (رواه ابن ماجة و البيهقي بإسناد حسن ).عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال "من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده كان شبعه وريه وروثه وبوله حسنات يوم القيامة" (رواه أحمد البخاري والنسائي).وهذا كله مما ذكر يدل على فضل الوقف كذلك . و قد وردت خصال أخرى في السنة من خصال الصدقة الجارية (الوقف) بالإضافة الى الخصال الذكورة، ومجموعها يكون عشراً وقد نظمها السيوطي في أبيات:
إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من فعال غير عشر
علوم بثها ودعــــاء نجــــل و غرس النخل و الصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر و حفر البئر أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي إليه أو بناءُ محل ذكر ِ
وتعليم لقرآن كريم فخذها من أحاديث بحصرٍ
و أما الإجماع فلأنه لم ينقل في مشروعية الوقف خلاف يعُتد به. قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي {صلى الله عليه وسلم} و غيرهم لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافاً.بعض الأمثلة للأوقاف في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم):وقد وقف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} و وقف أصحابه المساجد و الأرض والآبار و الحدائق و الخيل. ولا يزال الناس يقفون من أموالهم الى يومهم هذا.وكان الصحابة الكرام هم السباقين الى الخيرات ، وذوو الغنى و المقدرة منهم كانوا يوقفون الأوقاف الخيرية، قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه : "لم يكن أحدٌ من أصحاب النبي {صلى الله عليه وسلم} ذو مقدرة إلا وقف ". وهذه بعض الأمثلة على الأوقاف في عهد الرسول {صلى الله عليه وسلم} و صحابته الكرام:
عن أنس رضي الله عنه قال : لما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة وأمر ببناء المسجد قال: "يا بني النجار ! ثامنوني بحائطكم هذا ، فقالوا : و اللّه لا نطلب ثمنه إلا إلى اللّه تعالى. أي فأخذه فبناه مسجداً . (رواه الثلاثة)
وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول اللّه {صلى الله عليه وسلم} قال " من حفر بئر رومة فله الجنة " قال : "فحفرتها". {رواه البخاري والترمذي و النسائي} . وفي رواية للبغوي: "أنها كانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمُدٌ، فقال له النبي {صلى الله عليه وسلم} : تبيعها بعين في الجنة ؟ "فقال : يارسول اللّه ليس لي ولا لعيالي غيرها. فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم ثم أتى النبي {صلى الله عليه وسلم} فقال: أتجعل لي ما جعلت له؟ قال نعم . قال : جعلتها للمسلمين.
وعن أنس رضي الله عنه قال : " كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً وكان أحب أمواله اليه بيرحاء (بستان من نخل بجوار المسجد النبوي) وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول اللّه {صلى الله عليه وسلم} يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . فلما نزلت هذه الآية الكريمة {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران:92) قام أبو طلحة إلى الرسول {صلى الله عليه وسلم} فقال: إن اللّه تعالى يقةل في كتابه {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إلي بيرحاءُ ، وإنها صدقة للّه أرجو برها وذخرها عند اللّه فضعها يا رسول اللّه حيث شئت ، فقال رسول اللّه {صلى الله عليه وسلم} : بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه" (رواه البخاري والترمذي). قال الشوكاني : يجوز التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث المال لأنه {صلى الله عليه وسلم} لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به و قال لسعد بن أبي وقاص في مرض موته: "والثلث كثير".
وعن ابن عمر رضي اللّه عنه قال : "أصحاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النبي {صلى الله عليه وسلم} يستأمره فيها فقال: يا رسول اللّه إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ فقال له رسول اللّه {صلى الله عليه وسلم} "إن شئت حبست أصلها و تصدقت بها" فتصدق بها عمر: أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث، و تصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل اللّه و ابن السبيل و الضيف، لا جناح علي من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول (أي غير متخذ منها ملكاً لنفسه). (متفق عليه)الوقف من خصائص الإسلام:والوقف من خصائص الإسلام، قال الإمام النووي: "وهو مما اختص به المسلمون"، وقال الإمام الشافعي:" لم يحبٌس أهل الجاهلية داراً ولا أرضاً فيما علمت، إنما حبٌس أهل الإسلام".الحكمة من مشروعية الوقف :إن الحكمة في مشروعية الوقف: هو إيجاد مورد مالي دائم ومستمر لتحقيق أغراض مباحة من أجل مصلحة أو مصالح معينة. فبالوقف يتم تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي بين الأمة الإسلامية و إيجاد التوازن بين المجتمع، وفيه ضمان لبقاء المال و دوام الانتفاع به و الاستفادة منه مدة طويلة ، وفيه استمرار للنفع العائد من المال الموقوف فيستمرّ ثوابه لواقفه حيّاً وميّتاً ، وبه تتحقق أهداف اجتماعية واسعة وأغراض خيرية شاملة كدور العلم و الوقف على طلبة العلوم الشرعية وتنمية المجتمع الإسلامي وإغنائه عما بيد عدوه. وفوق هذا وذاك إن الوقف امتثال لأوامر اللّه ورسوله بالإنفاق في سبيل اللّه فيحصل للواقف الأجر الكثير و المثوبة العظيمة عند اللّه تعالى يوم القيامة إذا أخلص في نيته.وقد كان للأوقاف في حياة الأمة الأثر البالغ والدور الفاعل ظهر ذلك في بناء المساجد والمدارس و الإنفاق علها وترتيب أرزاق المعلمين و الطلاب مما كان له الأثر الكبير في دفع مسيرة العلم و الدعوة إلى اللّه قدماً في تاريخ الأمة على مدى قرون متتابعة.
شروط الوقف :
لصحة الوقف شروط أهمها:
أن يكون الوقف مسلماً حراً عاقلاً بالغاً مالكاً رشيداً فلا يصح من العبد لأنه لا ملك له، ولا من المجنون ومختل العقل بسبب مرض أو كبر ، ولا يصح الوقف من الصبي سواءً كان مميزاً أو غير مميز. ولا يصح الوقف من غير المالك إذ لا بد للواقف أن يكون مالكاً الموقوف وقت الوقف ملكاً كاملاً. و كذلك اشترطوا في الواقف أن يكون رشيداً غير محجور عليه بسفه أو فلس أو غفلة.
أن يكون الوقف مؤبداً غير مقيد بمدة.3- أن يكون مالاً متقوّماً من عقار أو غير عقار مثل الحيوان و السلاح و الكتب و المصاحف و غيرها من المنقولات، ويصحّ كذلك وقف الحلي للبس أو الإعارة لأنها عين يمكن الانتفاع بها دائماً فصحّ وقفها كالعقار.
أن يكون فيما أصله يدوم الانتفاع به فلا يصح وقف الطعام و الرياحين لسرعة فسادها
أن يكون الموقف معلوماً محدداً .
أن يمكن الانتفاع بالموقف عرفاً.صيغة الوقف:ينعقد الوقف بأحد أمرين (الأول) بالقول الدال على الوقف بألفاظ صريحة مثل أن يقول: "وقفت" و "حبست" و "سبلت" أو بألفاظ كناية مثل أن يقول: "تصدقت " و "حرٌمت" و "أبّدت". وفي الصورة الأخيرة يشترط أن تقترن نية الواقف مع لفظه. (الثاني) ينعقد الوقف كذلك بالفعل الدال على الوقف في عرف الناس، كمن بنى مسجداً وأذن للناس بالصلاة فيه إذناً عاماً، أو جعل أرضه مقبرة وأذن للناس بالدفن فيها.
أنواع الوقف و محله:
ينقسم الوقف بحسب الجهة الأولى التي وقف عليها في الابتداء إلى ثلاثة أقسام
1- الوقف الذري : وهو أن يجعل الواقف الوقف في ذريته و أقاربه.
2- الوقف الخيري : وهو ما يصرف ريعه على جهة خيرية كالفقراء و المساكين و بناء المساجد والمستشفيات و دور الأيتام وغيره
3- الوقف المشترك : وهو الذي يوقف في أول الأمر على جهة خيرية ولو لمدة معينة ثم من بعدها إلى الذرية و الأقارب ، كأن يقول الواقف أوقفت هذه الدار على الفقراء والمساكين مدة سنة ثم على نفسي وأولادي. أو العكس كأن يوقف على الذرية و الأقارب مدة معينة ثم بعدهم على جهة خيرية.نوع عقد الوقف و حكم التصرف فيه:الوقف عقد لازم بمجرد ثبوته بأي قول أو فعل دال عليه سواء حكم به قاض أم لا.إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز التصرف في الوقف ببيع أو هبة أو نحوهما ، كما أنه لا يجوز الرجوع فيه. >
حالات انتفاع الواقف بالموقوف:
أن يقف شيئاً للمسلمين فيدخل في جملتهم مثل أن يقف مسجداً فله أن يصلي فيه أو مقبرة فله الدفن فيها أو بئراً للمسلمين فله أن يستقي منها أو سقاية أو شيئاً يعم المسلمين فيكون كأحدهم ، وهذا لا خلاف فيه لما روي عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه أنه سبّل بئر رومة وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين .
أن يشترط الواقف في الوقف أن ينفق من ريعه على نفسه أو أهله فيصحّ الوقف و الشرط.إبدال الوقف و بيعه إلا إذا كان في ذلك مصلحة له مثل مسجد هجر الناس موضعه فلا بأس بإبداله في موضع آخر، أو بيت تهدم و هجر الناس موضعه يباع و يشتري أفضل منه في موضع أنسب ، و يكون ذلك تحت نظر المحكمة الشرعية لأنها تقدر المصلحة و لئلا يحصل التلاعب بالأوقاف أو الخطأ فيها.